(النيل يأتينا من الظلمات ليملأ الأكوان بالخيرات، يروي نداه أنضر الحدائق، وينبت الأرزاق للخلائق كأنه يأتي من السماء، ليمنح الحياة للأحياء يحيي موات الأرض في النواحي كأنه من عاملي فتاح).
هي بعض أبيات حفظها أجدادنا القدماء عن ظهر قلب، جعلوها "أنشودة النيل"، يرددونها كلما فاضت عليهم مياهه، حاملة إلى أراضيهم الخير والنماء، اعترافا منهم بفضل ذلك "الإله العظيم" المعروف بجالب السعادة، الملقب بـ"حابي".
تُدين الحضارة المصرية للنيل بالكثير، فهو مصدر للخير والنماء، على ضفافه وُجدت الحياة، وبعنفوان سريانه شكّل وخطط أرض مصر، وعلى انتظام توقيتاته أخضرت أرض المحروسة.
في 15 أغسطس من كل عام يحتفل المصريون بيوم "وفاء النيل"، الذي يعترفون فيه بفضل النهر العظيم عليهم، يرددون فيه الأناشيد والأغاني، يذبحون له القرابين، يقدمون له الفواكه والأزهار، ويسيرون في مواكب الزينة، شكرا للنيل على فيضانه، الذي سيروي أراضيهم، وما سيتبعه ذلك من خير وفير سيعود عليهم.
لم يُلق المصريون القدماء ببناتهم إلى النيل ليفيض - بحسب كثير من المؤرخين- وأرجع "أنطوان زكري" في كتابه "النيل في عهد الفراعنة والعرب"، منشأ هذه الخرافة إلى قصة رواها "بلوتارك"، المؤرخ اليوناني، وتناقلها عنه غيره من قومه ومن الرومان ومن العرب، إذ قال: "اعتمادا على رحي الجيبتوس ملك مصر قدم ابنته قربانا للنيل ليخفف غضب الآلهة، وأنه بعد فقد ابنته ألقى بنفسه في النيل"، وهذا القول هو أصل الاعتقاد بتقديم فتاة عذراء قربانا إلى النيل كل سنة، مؤكدا أن المصريين القدماء كانوا في قمة المدنية ورقة الشعور وسمو العواطف حتى مع الحيوانات، ولذا فمن المؤكد أن سجيتهم ستشمئز بإلقاء فلذة أكبادهم في مجرى المياه المتلاطم الأمواج.
كذّب "هيرودوت" -كذلك- خرافة إلقاء فتاة إلى النيل، حينما قال: "إن المصريين كانوا يكرهون ذبح الحيوانات، ومن المعقول جدا أن يترفعوا عن إزهاق الأرواح التي قيل إنهم يقدمونها كقربان وضحية طلبا لوفاء النيل".
النيل رب السمك المحبوب يأتي به من عالم الغيوب .. ويخصب النبات في الغيطان والزهر والريحان في البستان
ينبت قمحًا وشعيرًا جيدًا ولن يصد النيل عنه أحدًا .. بالنيل ينجو من شقاء الدهر * كل فقير من أهالي مصر
في نعمة النيل لهذا الوادي سعادة الحكام والأفراد.. والبطء في الفيض يضر الخلقا * ويغضب الربَّ الرحيم حقَّا
يردد المصريون أنشودة النيل أثناء سيرهم في موكب يوم الوفاء العظيم، حيث ينزل الملك برفقة العديد من الأمراء في مراكب مُزينة متجهين إلى مقياس النيل بحسب روايات متعددة تصف المشهد- ويظل الموكب هناك حتى يصل منسوب المياه إلى 16 ذراعا، لتقام بعدها الاحتفالات، التي تبدأ بضربة الملك بمعول من فضة في مكان محدد، تخرج منه الماء إلى قناة فم الخليج ليبدء سريان المياه، ثم تلقي دُمية في النيل مع حفنة من النقود الذهبية والفضية في المياه المتدفقة، ويتبعها الحاضرون للاحتفال من الشعب المصري بإلقاء قطع النقود والأزهار وسط قرع الطبول وابتهاج الناس بقدوم النيل في موعده.
وذكر كذلك، أن ملوك الدولة الحديثة كان يشهدون مهرجان زيادة النيل، الذي كان يبدأ بمركب الكهنة الحاملين لزورق آمون رع المقدس، ويسير الملك في هذا الموكب الذي تتقدمه تماثيل قدماء الملوك، وخلال ذلك كان الناس يبتهلون إلي النيل، وقيل: إن الملك قبل الفيضان كان يركب النيل ويتوجه إلى مجراه العلوي فيبلغ جبل السلسلة، ويغيب في مضيقه الضيق، ويحاول استعطافه بالهدايا فيقدم إليه ثورا، ويقذف في أمواجه بردية فيها كلام سحري، يستحث النهر على الخروج من الأرض.
رغم اختلاف الروايات في "شكل" الاحتفال بفيضان النيل، إلا أن الثابت هو احتفال المصريون تعظيما لهذا النيل العظيم، مصدر الخير والنماء، شريان حياة المصريين الوحيد، وإن كان بقي الاحتفال على امتداد الدهر عابرا لأزمنة ولعصور تجاوزت 7 آلاف عام، ليصلنا إلى يومنا هذا، فيجب أن يستحق ذلك عودة سمو وعظمة النيل من جديد في وجدان المصريين.
الحفاظ على المياه، عدم التلويث، عدم إلقاء المخلفات والحيوانات النافقة، عدم التعدي بالبناء والردم على النيل وفروعه -يقينا- هي أحد الوسائل "الحالية" التي يمكن أن يتبعها المصريون لتقديس النيل، بعد أن اختفت المظاهر الاحتفالية -وإن بقت ذكرى الاحتفال- لعلنا نترك لأبنائنا ما يبنون عليه أنشودتهم في حب نهر عظيم، أسر قلوب البشرية، بعد أن استقر في فؤاد المصريين حبه، معظمين من شأنه، مختتمين أنشودتهم بـ
مصر تعد النيل ربًّا ساميًا * فاجعل لنا بالفيض حظًّا ناميا
واجعل بني النيل على سواهم * يرقون شأنًا رغم من عاداهم.