يحتفل المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها اليوم ببداية عام هجرى جديد وهو العام 1441 من هجرة "المصطفى"- صلى الله عليه وسلم- وللهجرة معانى كثيرة ودروس وعبر إذا تدبرها الإنسان كانت له نوراً ينير طريقه، ومن معانى الهجرة الشريفة يقول حمد الله حافظ الصَّفْتـى، عضو المنظمة العالمية لخريجى الأزهر الشريف، لا تزال نسائم الهجرة النبوية وذكرياتها وعِبَرُها تتجدّد على الأمّة الإسلامية فى كل عام، ولم يزل الوُعاة المهديّون من الأمّة يرون أنفسهم فى هجرةٍ لا تتوقف، لأنّ مشقة الحياة وصعابها لا تنقضى، ولأنّ صراع الحق والباطل قائم قيامَ هذه الدنيا، وفى الهجرة من عظيم المعانى ما هو عُدّة لأبناء الإسلام فى ذلك الصراع المستمرّ، ومن أول هذه المعانى وأشدِّها مناسبةً لما نعيشه فى أيامنا هذه:الوحدة أساس القوة، فكانت الهجرة النبوية انتقالًا من الضعف والاضطهاد إلى القوّة والعزّة، وأسست مبدأ عهد جديد وهو عهد بدء دفع العدوان على الحق بالقوّة، حيث آخى "النبى"- صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكان هذا التآخى بين الأصحاب أول نُواة تنبت منها القوّة المنشودة ضدّ المعتدين.
ضرب لنا "النبى"- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه- رضى الله عنهم- أروع الأمثلة فى حب الوطن، والأدلة كانت واضحة على حب النبى صلى الله عليه وسلم الشديد لبلده ووطنه مكة، كما تدل على شدة حزنه لمفارقته له، إلا أنه اضطر لذلك.
فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، قال: "أما والله، لأخرج منك، وإنى لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت".. مسند أبى يعلى.
ثم لما انتقل النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دعا ربه عز وجل أن يجعل حبها كحب مكة فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا فى صاعنا وفى مدنا، وصححها لنا".متفق عليه
إذا تأملنا هجرة النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم فسنجد أن كلها تضحيات كبيرة من أجل الله عز وجل بداية من النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم ووصفهم الله عز وجل بالصدق، وانتهاء بموقف الأنصار الذين استقبلوهم وضحوا بكل ما يملكون فى مواساتهم ونصرتهم.
عن سعيد بن المسيب قال: خرج صهيب مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين، فنثر كنانته وقال لهم: يا معشر قريش، قد تعلمون أنى من أرماكم، والله لا تصلون إلى حتى أرميكم بكل سهم معى، ثم أضربكم بسيفى ما بقى منه فى يدى شيء، فإن كنتم تريدون مالى دللتكم عليه.قالوا: فدلنا على مالك ونخلى عنك.فتعاهدوا على ذلك، فدلهم ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ربح البيع أبا يحيى»، فأنزل الله تعالى فيه: "ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله".
تتجلى لنا الصداقة الحقة فى أوضح صورها فى الصديق رضى الله عنه ومواقفه مع النبى صلى الله عليه وسلم سواء فى الهجرة أو غيرها، حتى أنه هو الذى طلب الصحبة من النبى صلى الله عليه وسلم فقال الصحبة يا رسول الله ثم بكى لما وافق النبى صلى الله عليه وسلم، كما تقول السيدة عائشة رضى الله عنها: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكى من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ".
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه حدثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن فى الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».متفق عليه
تبرز قيمة الأمانة فى الهجرة المباركة؛ حيث أمر النبى صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله عنه بتأدية الأمانات التى كانت عند النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهلها حتى وإن عادوه وأخرجوه؛ حيث قال النبى صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك".سنن الترمذى، وليست الأمانة مقصورة على ذلك فقط فالهجرة فى مجملها كانت تأدية لأمانة الدعوة ونشر الدين وغير ذلك من الأمانات الواجبة.
أوضحت لنا الهجرة قيمة الصدق فى أكثر من موقف حيث ضرب النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم أروع الأمثلة فى الصدق؛ فكانوا صادقين فى التضحية بكل شيء فى سبيل الله عز وجل، قال تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولٰئك هم الصادقون".
أبرزت لنا الهجرة المباركة العديد من المواقف التى تعبر عن الشجاعة من ذلك موقف الإمام على رضى الله عنه لما قال له النبى صلى الله عليه وسلم: "نم على فراشى وتسج ببردى هذا الحضرمى الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام فى برده ذلك إذا نام.
أوضحت لنا الهجرة المباركة ضرورة التخطيط الجيد للأمور كلها مع الاستعانة بالتوكل على الله عز وجل، فالنبى صلى الله عليه وسلم خطط للأمر جيدا؛ حيث تم اختيار الصديق وتجهيز الراحلة والمرشد الماهر الأمين، إضافة إلى توزيع الأدوار الجيد فى عملية الهجرة كلها، واستكمل ذلك كله بحسن التوكل على الله عز وجل.
قالت عائشة رضى الله عنها: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة فى جراب، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار فى جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا، يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة، مولى أبى بكر منحة من غنم، يفعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الديل، وهو من بنى عبد بن عدى، هاديا خريتا، والخريت الماهر بالهداية، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، براحلتيهما صبح ثلاث.صحيح البخاري
أوضحت لنا الهجرة المباركة قيمة الأمل وعدم اليأس فى أكثر من موقف للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم، ومع الاضطهاد والتعذيب لم يثنهم شيء عن دين الله عز وجل؛ حيث كان النبى صلى الله عليه وسلم قد يعرض نفسه على القبائل فيقول: «ألا رجل يحملنى إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربي»، فرفضت كل القبائل ولم يستجب إلا الأنصار فكانت بيعة العقبة الأولى والثانية ثم الهجرة المباركة، قال النبى صلى الله عليه وسلم لخباب رضى الله عنه لما شكا له: " والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".صحيح البخاري
من أروع الأمثال التى ضربها لنا النبى صلى الله عليه وسلم فى العفو؛ أن عاداه قومه وأذوه وأخرجوه من بلده التى يحبها وحاربوه وتحالفوا عليه، ولكن بعد أن عاد إليهم ودخل مكة فاتحا بعد ثمانية أعوام عفا عنهم صلى الله عليه وسلم جميعا وقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء.
"الشهامة" من القيم المهمة عند العرب قبل الإسلام وبعده؛ حيث أبرزت لنا حوادث الهجرة شهامة عثمان بن أبى طلحة رضى الله عنه قبل إسلامه مع السيدة أم سلمة رضى الله عنها.
فعن أم سلمة رضى الله عنها: خرجت أريد زوجى بالمدينة، وما معى أحد من خلق الله.قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجى.حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبى طلحة أخا بنى عبد الدار، فقال لي: إلى أين يا بنت أبى أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجى بالمدينة.قال: أوما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبنى هذا.قال: والله ما لك من مترك.فأخذ بخطام البعير فانطلق معى يهوى بى، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط، أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بى، ثم استأخر عنى، حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى، فحط عنه، ثم قيده فى الشجرة، ثم تنحى وقال: اركبى.فإذا ركبت واستويت على بعيري؛ أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بى، فلم يزل يصنع ذلك بى حتى أقدمنى المدينة.
من أبرز القيم التى أكدتها الهجرة المباركة هى المواطنة والتعايش السلمي؛ حيث قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة وبها العديد من الطوائف، فوضع النبى صلى الله عليه وسلم وثيقة المدينة لترسيخ مبدأ المواطنة والتعايش السلمى.
ضرب لنا صحابة النبى صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة فى الإيثار؛ لما اخى النبى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار قالت الأنصار للنبى صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: «لا» فقالوا: تكفونا المئونة، ونشرككم فى الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا".
تمثل مواقف "النبى"- صلى الله عليه وسلم- فى الهجرة بجميع مراحلها الدرس العملى للقدوة؛ من حيث الصبر والتضحية والعمل بدون يأس، ثم التخطيط الجيد والتنفيذ وانتهاء بالاستقرار والبناء، لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا.