كتب نصر إسكندر
وطنية الكنيسة المصرية
في أيام حكم محمد علي باشا (1809 ـ1848م) والى مصر (10) عندما ذهب سفير دولة روسيا إلى المقر الباباوى لمقابلة البابا القبطى وكان يصطحب معه مترجماً يتقدمهما الياسقجى (11) الذى قام بسؤال أحد الواقفين بالباب عن قداسة البابا بطرس الجاولى فقال : " هل هو موجود ويمكننا مقابلته ؟ " فأجاب بأنه هنا ولا يوجد شئ يشغله يؤخره عن قبول زيارة أى إنسان " ثم أشار لهم بالدخول إلى حوش (فناء - منطقة واسعة ) البطرخانة فدخلوا وظنوا أنهم سينتظرون أحداً من السكرتارية ليقودهم إلى البابا القبطى , وإذا بهم بجدون رجلاً فى مرحلة الشيخوخة هابوه لمجرد النظر إليه جالساً على دكة (مقعد خشبى) وحوله مقاعد أخرى صغيره وبيده الكتاب المقدس , وقد ظن السفير أنه لا بد وأن يتم أستقباله أستقبالاً رسمياً ولا بد ان يكون قد وصل للبابا أن زائراً عظيما وممثلاً لدولة كبيرة يريد مقابلته , وهناك ترتيب وإستعدادات تجرى لأستقباله , ولم يخطر ببالهما أن يكون الرجل الجالس على الأريكة لا يهتم بلبسه أو هيئته يلبس زعبوطاً الصوف الخشن الذى يستر جسمه ويغطى شعر صدره الظاهر , وتسائلوا فى عقليهما أيمكن ان يكون هذا الرجل البسيط هو رئيس الأقباط وسليل فراعنة مصر , فسألاه : " أين هو غبطة بطريرك الأقباط ؟ فقال البابا : من هو الذى تريد أن تراه؟ أجابه المترجم : هذا زائر عظيم , سفير قيصر روسيا ..فقال البابا بطرس الجاولى بكل تأن وأحترام : " فليتفضل يجلس , أنا البطريرك بنعمة السيد المسيح " فتعجب السفير وأبديا دهشتهما .. زلكنهما أحنيا رأسهما حسب عادتهما فى بلادهما وتقدم كل منهما نحو البابا لا ثما راحتيه "يديه" فأجلسهما البابا إلى جانبه وأمر باعداد ما يلزم إكراماً للضيوف بتقديم المشروبات ..
وكان أول سؤال يسأله السفير الروسى : لماذا لا تهتم بنفسك إهتماماً بمركزه فى العالم المسيحى لآن وظيفته السامية تخول له الحق فى تحسين هيئة ملابسه ومعيشته , فأجاب البابا القبطى : " ليس الخادم أفضل من سيده أنا عبد المسيح الذى أتى إلى العالم وعاش مع الفقير , ولأجله , يأكل مع الخطاة ويجالسهم , ولم يكن لرب المجد من دار يأوى إليها وها أنا لى بيت ألتجئ إليه , ومقر يقينى حر الصيف وبرد الشتاء , ولم يكن لصاحب الملك والملكوت ما يأكله مع رسله الأطهار ولا مخزن فيه المؤنة , وها أنا آكل وأتمتع , فهل أنا أفضل من صاحب المعونة ... "
وكانت الإمبراطورية الروسية تعد أكبر دولة مسيحية أرثوذكسية ويحكمها قيصر، جاء هذا السفير ليعرض على البابا بطرس موضوع حماية قيصر روسيا للأقباط فإبتسم البابا بطرس الجاولى فى وجه محدثه وسأله برفق ومودة قائلاً له : هل ملككم (قيصر روسيا) يموت أم يعيش إلى الأبد ؟ فقال له الزائر : " هو يموت طبعاً مثل كل بنى البشر " ، ولكن البابا بطرس رفض هذا العرض، ورد على السفير بهذه الجملة الذهبية : ( نحن في حمى من لا يموت )
فإذا كان قيصر روسيا يموت فنحن نفضل أن نكون فى حمى من لا يموت وليس لملكه نهاية .. فإنصرف السفير من أمام البابا وهو يتعجب من رده المنطقى الذى لم يستطيع ان ينطق ببنت شفه بعده , بل شعر بالعظمة الروحية والإيمان الحقيقى المسيحى الذى تسلمناه من مرقس رسول المسيح إلينا .
وذهب السفير إلى محمد على فسأله عما رأى بمصر فأجابه : " لم تدهشنى عظمة الأهرام ولا إرتفاع المسلات ولا الكتابة الموجودة عليها , ولم يبهرنى كل ما هو موجود فى مصر من عجائب , بل أثرت فى نفسى فقط زيارتى للرجل التقى بطريرك الأقباط , ثم روى له كل ما جرى بينهما , فطفح السرور على وجه محمد على باشا , ولما ذهب من امامه السفير الروسى حتى قام وذهب إلى المقر الباباوى , وقدم الشكر الجزيل للبابا بطرس الجاولىعلى ما أبداه من أستقلالية لكنيسته وعلى ما أبداه من وطنية ونبذ التدخل الخارجى.
فقال له البابا بطرس الجاولى : لا تشكرنى عن واجب قمت به نحو البلاد , فقال له محمد على باشا : لقد رفعت اليوم شأن كنيستك وشأن بلادك فليكن لك مقام محمد على فى مصر ولتكن لك مركبه معده كمركبته .. ومنذ ذلك اليوم إزداد مقام البابا عند محمد على باشا وعظمت ثقته بأبنائه الأقباط وأعطى للأقباط مميزات كثيرة فى تقلد الوظائف الحكومية المختلفة
عن كتب تاريخ الكنيسة القبطية و الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة.