بقلم : أحمد راغب.
هل شعرت ذات ساعة أو دقيقة، ثانية.. أو ذات لحظة، بعدم الرضا عن بناءك الشكلي؟!، هلا سألت وتساءلت كم أنت راضٍ عن شكل وجهِك؟.
البديهي والطبيعي للنفس البشرية هو التطلع لما هو أفضل في كل شيء، لكنَّ تطلعك لم يكن ممزوجًا على الدوام بعدم الرضا والسخط!، بل هو نوع من إعطاء حق النفسِ عليك.
كانت يا عزيزي وعزيزتي أزمة "نرجس"- أو برجس كما أسميه- هي فتنة الجمال، لقد افتُتِنَ "نرجس" بانعكاس بصورة وجهه الجميل في الماء... أعتقد أنّه الإنسانُ الأول في الأرض الذي قتله الجمالُ!، وها نحنُ منذئذٍ نتسمى بحالته حتى الآن إذا أصابنا عتَهَ الاغترارِ والهوسِ بجمالنا الشكلي، فنقول: " يا لك من نرجسيّ"، ولم تنتهِ قصةُ نرجس إلى الآن، ولم تنتهِ نرجسية بعض أفراد البشرية من افتِتانهِم بجمالهم.
أما الآتي، فقد بدأت مآساةٌ أخرى كمآساة هاملت و ماكبث، ومآساة أوديب، إنها مآساة عصر الفلاتر!.
مع انتشار - أقصد تفشّي- أجهزة المحمول منذ بداية الألفية الثانية، وتطور هذا الأجهزة بسرعة شديدة تبَاعدَ أفرادُ المجتمع عن بعضهم البعض -داخليًا على نحو خاص أو عام- في الواقع الحقيقي، ليحل محله واقعٌ إفتراضي يتقاربون فيه عن بُعد لكنه تقارب بلا تقارب، وتواصل بلا تواصل، لكون ما يميز كل شيء في الحياة هي روح وجوهر ذلك الشيء؛ فاختفى جوهر التواصل، وتلاشى جوهرُ التلاقي في ذلك العالم الإفتراضي الآخر.
عالمٌ فيه المزيف أكثر من الحقيقي، عالم التطبيقات والميديا الساحرة.
على هذا النحو عملت كبرى شركات العالم على رغباتٍ مستترة داخل كل فرد يستخدم تكنولوجيا المحمول؛ فصارت هي التي تُربي وتُعلّم وتُدخِل مدخلاتها بسهولةٍ ويسر داخل كل فرد، ولم يكن من المهم أساسًا تنقية أو تحليل تلك المُدخلاتِ الخبيثة، بل تحوّل أفراد المجتمعات الآلي لآلةٍ فعلية تستقبل كل شيءٍ من مُبرمجيها والمتحكمين بأزرارها.
- ما رأيك في هذه الصورة؟، لقد استخدمتُ فلترًا جديدًا يجعلني أكثر جمالًا!
- لقد عانيتُ من شكلِ الحبوب.. عانيتُ من تلك الندبة.. عانيتُ من هذا النمش اللعين!، لقد كان يزعجني وكنت غير راضية عنه،. لكن ذلك التطبيق يضفي على الصورة جمالًا خاصًا..
إنه حوارٌ يحدث على وجه الحقيقة لا المجاز ولا الخيال في عصرنا الممسوخ.
لقد تحوّل الشباب من الإناث والذكور إلى لُعبةً مُنمَّطَة بأيدي تلك التطبيقات المُسِلِبَة للحقيقة، وإحلالِ واقعٍ مفترض بدلًا منها.
في يومٍ من أيام وباء كرونا- أبعده الله عنا وعنكم- التاسع من أيلول لعام٢٠٢٠م، أجرَت الـ "BBC" تقريرًا عن "استطلاع" أجرته منظمة (Girl Guidin) الخيرية لإرشاد الفتايات في إنجلترا، وفحواه:
أنَّ ثُلث الفتايات والشابات لا ينشرن صورًا لهنّ عبر الإنترنت إلا بعد استخدام تقنية "فلترة" أو تنقية البشرة؛ لتغيّر مظهرَهن.
يبدو الأمر في وهلته أنه طبيعي، وأقول لك أيها القارئ، لقد وصفناه بالطبيعي لاعتيادنا عليه ليس أكثر!، أو بالأحرى (تم برمجتنا بنجاح)!؛ حيث إنَّ ٣٩٪ من اللواتي شاركن في الاستطلاع، والبالغ عددهن ١٨,٧٣٥ ممن تتراوح أعمارهن بين الـ ١١ و ٢١ عامًا، يشعرن بالضيق؛ لأنه ليس بمقدورهن أن يظهرن في الحياة الواقعية كما هُن على الإنترنت.
كان ذلك في الغرب -المتقدم- فما بالك يا عزيزي بمجتمع الشرق الأوسط المليء بعُقد النقص" Inferiority Complex"، والكبت "Suppression"، والتسلط والدونية، واضطهاد المرأة، والديكتاتوريات المستبدة، والتنمر.. مجتمع السوق المُستهلِك؟!!، إنَّ جُلَّ هذه الأشياء لواحدة منها كفيلة بتعزيز روح "عدم الرضا"، إضافةً لتحول الشرق الأوسط لبيئةٍ خصبة للتنميط.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة استخدام أفراد كُثر كُثر من الذكور والإناث فيما بين العشر سنوات والثلاثين عامًا تطبيقًا يسمى (جرادينت) (Gradient) خاص بفلترة الصور، وتحويلها لصورةٍ مرسومة أو أنيمشن، أو صورة أكثر جمالًا بفعل الفلاتر؛ حيثُ تبدو صورة الشخص أكثر مثالية في الجمال- الجمال المُصنَّع طبعًا- مما يعطي شعورًا بالرضا المنمِط لصاحب الصورة.
وهذا بيتُ القصيد، الجمال المزيف!، الجمال الإفتراضيّ، إنه الخداع بعينه.
فإنّ النتائج المترتبة على استخدام تطبيق "Gradient" أو تطبيقات الفلاتر الأخرى، أدت إلى استغناء الكثير -ذكورًا وإناثًا- عن صورهم الحقيقية بصورٍ أخرى مُفَلْتَرة!، وإنه فَقْدٌ للهوية الشكلية الحقيقية تمامًا. حيثُ يُنتج ذلك مجتمعًا عُرضَةً تامة وفجّة لخطرِ «اضطراب تشوّه الجسد»، وهو ما ينعكس على الصحة العقلية والبدنية للمراهقين وحتى الكبار.
وحذّرت الرابطة الألمانية لأطباء الأطفال والمراهقين من هذا، كما حذَّر بعض أطباء مصر والأردن وعُمان من نفس الخطر.
يندرج «اضطراب تشوّه الجسد» نتيجة لاستخدام تطبيقات الفلاتر للصور ضمن اضطرابات الوسواس القهري، وفيه يشعر الشخص المصاب بقلق مفرط؛ بسبب عيب في الشكل أو معالم الوجه والجسد؛ ما يرفع خطر الإصابة بالاكتئاب أو محاولة الإنتحار!.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد في العالَم المُبَرْمَج والمُسْتَلَب الإرادة الحقّة، بل امتد إلى محاولة البعض لإجراء عمليات تجميل تجعل من شكل وجهه نفس شكله في الصورة المُفلتَرة، ونتج عنه ظهور مصطلح ظهر في عالم الجراحات التجميلية لوصف المهووسين بصورهم المُفلترة، وهو « Snap chat Dysmrphia».
وتتمثل أعراض هذا الاضطراب في تدني احترام الذات والعدوانية والعُزلة الإجتماعية، كذلك الهوس بشكل الجسد وأنظمة الحمية الغذائية؛ من أجل الوصول إلى الصورة المثالية للمشاهير والنجوم وفي كثيرٍ من الأحيان يصل ببعض الحالات لإيذاء أنفسهم ومحاولة التخلص من حياتهم!..
إنَّ هؤلاء الأوغاد الأخسّاء، الذين وضعوا لنا تطبيقاتٍ مثل تلك يهدمون كل روحٍ للحقيقة، ويهتكون عِرض الفطرة التي بثها الخالِقُ داخل كلَّ نفسٍ بشرية.
حيث إنَّ مَنْ يستخدم "الفلتر" بصقل وجهه، وينحّفه يُصبِح مع الوقت لا يتقبل وجهه الحقيقي، وهذا الأمر الخطير مرتبطٌ بالموضة وتغيُّرها، فشيوع هذه الأشياء مع الوقت بين الناس قد جعلها مقبولة لهم، وهو الاستلاب، وعين البرمجة للاوعي البشري.
أيُّها الأوغاد، الفلاتر تلغي الهوية الحقيقية للفرد، بل تُغيِّر بشكلٍ كبير مفزع في شكله.. سعيًا منه لاكتساب أكبر قدر من التفاعل والإعجاب من المحيطين.
- تحوُّلُ الفلاترِ كمعيار للجمال:
تحوّلت هذه الأشياء بخبث تفشّي الوباء إلى معيار لقياس الجمال!؛ وعليه فإنها تعزز العدوانية والمقارنة الإجتماعية.
وفي قراءتي لبعض البحوث المتعلقة بقضية "التنميط"، استوقفني قول للدكتور "محمد أحمد عامر" أخصائي جراحة التجميل، حيث يقول:
" إنَّ اهتمام الفتايات بعمليات التجميل زاد بصورةٍ ملحوظة في الفترة الأخيرة، ويرجع سبب ذلك أنَّ الفتايات دائمًا ما يضعن أنفسهن في مقارنة مع الفنانات، وصور الواقع الإفتراضي المعتمدة على الفلاتر".
وفي رأيي أنَّ أولئك الفنانون والفنانات لا يدركون سَفَهَ ما قد ارتكبوه وفعلوه بالمجتمع، من إدّعاء بهرجة (المكياج) والهوس برفع الصور المفلترة على حساباتهم الشخصية، لا يخطر ببالهم وببالهن أنَّ هذا العالم صار عويلمٍ صغير بفعل (الميديا الجديدة) ، وأنَّ الصغير والكبير يرى ويتابع ويشاهد ما يفعلون، ويتأثرون به لاستشعارهم الإنبهار فيه.
لابُد من انتباه المجتمع ككل، والإنسانية جمعاء، لهذا الخطر الجم الذي سيودي بنا جميعًا للعالم الأكثر مسخًا.
كل شيءٍ قابلٌ للفلترة .. الوجوه.. والعيون.. والشفاه .. حتى شكل الجسد.. لكن ما نحتاجه الآن مدد اللهِ في الإنسانية لترسيخ مفهوم " فلترة الأفكار" فلترة ما قد ينهي على ما تبقى من فطرتنا التي قد خُلِقنا عليها.
أرجو ألا يأت اليوم الذي فيه نتحول فيه لمسوخٍ إفتراضية مسلوبة.