أحمد راغب
بقلم | أحمد راغب
التاريخُ لا يكتبه المنتصرون فقط، إذا كان الإنتصار معنًا حمّال أوجه فإذا كان نصرًا عسكري فهل كان نصرًا إجتماعي، وإنْ كان كذلك هل هو نصر إقتصادي بالطبع أَنّ معاير الإنتصار لها أوجه عدّة ومختلفة وإنّي أرَى أَنَّ إنتصار أحد طرفي نزاعٍ على الآخر يكمن في الأغلب في كون أيّ الطرفين خسر أقل وكسب أكثر وأيهما كان أقل وضع و جاهزية وانتصر.
وعليه يكون حجم وقدر وعظمة ذلك الإنتصار، كإنتصار أكتوبر العظيم، وكخيبة وهزيمة كيبور الوضيع!
يوم كيبور من عام ١٩٧٣، مثل غيره من أيام كيبور في «إسرائيل» في كل سنة. تتوقف الحياة تمامًا ويصوم فيه اليهود، ويقومون بأداء الصلوات .. أو هكذا يدّعون.
إنه أكثر الأيام قداسةً عند «اليهود» وعندما أقول اليهود فإني أقصد يهود الملعونة .. تلك الدولة المزعومة "إسرائيل" إذ إنَّها ديانة وليست دولة مزعومة فقط، ويكأنها تحولت لمذهبٍ لفهم اليهودية، أو فقل إنَّ إسرائيل هي داعش اليهودية!
وفي عالمٍ مواز آخر-أكبر وأوسع- يعيش المصريون والسوريون والأردنيون -بشكل خاص والعرب بشكل عام- في أجواء شهر «وحوي يا وحوي» رمضان المبارك، وصواني الكنافة؛ تلك الكنافة التي كان غارقًا فيها المواطن العربي أعوامًا طويلة بزعامة جيوشه، المنتكسة بنار الهزيمة، وسقوط غزة والقدس، وسيناء الحبيبة في يد الصهاينة «النازيون الجدد»، بالإضافة إلى سقوط مرتفع الجولان السوري!.
"هُنا القاهرة". كان ذلك نداءُ البُشرى. المواطنون العرب يقفون بداخل القهاوي، السيارات الملاكي التي تحمل راديو تركن بالشوارع، ويلتف حولها الناس ليستمعوا، حيث أنبل ما قد سمعوا في عمرهم في هذا الوطن:
(بصوت رخيم متزن واثق) "نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة، واستولت على نقاط العدو القوية بها، ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة.. هنا القاهرة".
إنه أعظم ما سمعه العرب مذ نودي في أزقة مصر أن الناصر صلاح الدين الأيوبي قد انتصر على الهمجيين الأروبيين في "حطين". سمعَ المصريون والعرب جميعًا ذلك بعدما مرَّ على آذانهم عشرات الأكاذيب المشهورة من "افرحوا يا عرب نحن على مشارف تل أبيب"! ثم يستيقظ المساكين على نكسةٍ كبرى، لكن في تلك المرة لم تكن أكاذيب، إنها حق الحقيقة واليقين الذي لا ريب فيه، العرب يحاربون.
الساعة الثانية إلا دقيقتين، صعود غبار ورمال في غرب القناة، بيادات الجنود تطقطق حصى الرمال تحتها، المدافع على وضع الاستعداد، المدرعات .. تتأهب.. الطيران .. ينتظر اللحظة..، وإسرائيل شبه نائمة داخليًا على الرغم من علمها بشن مصر حرب عليها! إنها حقًا "حلاوة الروح" ولا أعتقد في أرواح هؤلاء الصهاينة أيَّة حلاوة للروح، دعنا نقل يا عزيزي، إنها "سَكَرَات الموتِ لإسرائيل الملعونة"!.
الأيام الماضية قبل كيبور، صحفهم وإذاعتهم تتناول الأنباء عن كيف وصل العرب لحالة من الإنهزامية والإحباط بعد حرب الستة أيام (١٩٦٧).. لن تحارب مصر.. إنهم ينشرون صور الجنود ذهبوا إلى الحج.. كذلك يحتفلون باللاعب «حسن شحاته» حيث فاز بأفضل لاعب في آسيا!... العرب في تراخي .. على إسرائيل أن تسترح قليلًا.. يجب أن نستمتع بالعيد "عِيْدْ كيبور" عيد سعيد..!
هكذا كانت تعيش إسرئيل في تلك الساعات.
الساعة الثانية ظهرًا.. بدأ المصريون والسوريون الحرب. حيث بدأت قوات المشاة المصرية بالعبور في نفس وقت تغطية المدفعية المصرية لها بإمطار العدو بوابل من القذائف تسقط فوق رؤوس الصهاينة، وتدك حصونهم التي صارت أوهن من بيت العنكبوت بفضل من الله وعزيمة وشدة من أبطالنا البواسل. الآن نحنُ هناك في عام ١٩٧٣ في شبه جزيرة سيناء حيثُ المعركة.. حيثُ تبدأ نهاية الغطرسة والبلطجة الصهيونية آنذاك.
ويكأني أستمع لكلمات «إيهود باراك» رئيس الوزراء الصهيوني السابق، والجندي بالقوات الخاصة الصهيونية في أكتوبر ١٩٧٣م، أستمع وأُطرَب لهذا:
"لقد كانت الوجوه شاحبة كأنما يعلوها الغبار، فقد كانت هذه اللحظة(يقصد لحظة العبور) الأشد قسوة خلال الحرب، وبعد ذلك بدأت القوات الإسرائيلية في دخول المعارك، لكن في ذلك اليوم ضاع نصر ٦٧ النفسي وضاع شعور أنَّ الجيش الإسرائيلي لا يُهزَم".
تلك كلمات جندي صهيوني تصف بتأدب -شديد- كيف كانوا يشعرون بالرعب والصدمة .. بالسقوط!.
الحرب الباردة في أوجها في مطلع السبعينات من القرن الماضي، إذ دعمت الولايات المتحدة الامريكية-أو قل الصهيونية- إسرائيلَ ودعم الإتحاد السوفيتي السابق مصر وسوريا وبالتالي أصبحت الحرب تجري بين الطرفين بالوكالة عن القوتين الأعظم في العالم.
كانت الولايات المتحدة تنتج أفضل الأسلحة ولا تتردد في منح إسرائيل أحدثها، لذلك نجحت تل أبيب في وقف تقدم القوات المصرية والسورية سريعًا وانتقلت فيما بعد إلى الهجوم فنجحت في استرداد أغلب الأراضي التي خسرتها ونشطت الجهود الدولية لوقف القتال وتقبل الطرفان فكرة وقف إطلاق النار.
وقررت دول الخليج الغنية بالنفط معاقبة الغرب على موقفه الداعم لإسرائيل باستخدام ما أطلقت عليه "سلاح النفط".
وبانقطاع امدادات النفط العربية ارتفعت أسعار الوقود بشكل سريع في العواصم الغربية وتهاوت أسهم البورصات وتراجعت معدلات الأداء في الاقتصاد العالمي وأثرت هذه الخطوة على الاقتصاد العالمي لعدة سنوات.
وفي تلك اللحظة بدأت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بالتفكير في تنويع مصادر النفط والبحث عن مصدر بديل للطاقة غير البترول وهى اللحظة التي بدأ فيها العمل على بناء سيارة تعمل بالغاز.
وكان من أهم آثار تلك الحرب أن مصر خرجت من نطاق النفوذ السوفيتي لتدخل في تحالف إستراتيجي مع الولايات المتحدة.
ووقعت مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل بعد ذلك بعدة أعوام لتنتهي أصوات الرصاص ولتصبح معاهدة كامب ديفيد واحدة من أكثر المعاهدات أهمية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن هذه الحرب شهدت أعنف معارك الدبابات في التاريخ إلا أنها أثبتت أن الدبابات والمدرعات شديدة الضعف أمام الصواريخ. كما أدركت إسرائيل أنها لن تتمكن بعد ذلك من تحقيق إنتصارات سهلة.
انتصر الجيش العربي، في ملحمة وطنية هي الأعظم من نوعها، وأعادت مصر الأرض المغتصبة من العدو الإسرائيلي، وأعادت كرامة شعبها.
وخلقت حرب أكتوبر نوعًا من التلاحم الشعبي مع مؤسسات الدولة، حيث توحد الجميع خلف قواتنا المسلحة لاستعادة الأرض وتحقيق النصر، وفي سبيل ذلك ارتفعت الروح المعنوية، وخلت البلاد من وقوع أية جرائم خلال فترة الحرب.
وأكدت كل الملفات الأمنية، التي خرجت عقب انتصارات أكتوبر أن حركة الجريمة في الفترة التي تبدأ من ٦ وحتى يوم ٢١ أكتوبر قد انخفضت عن مثيلتها في العام السابق من ٩٥ جناية عام ١٩٧٢ إلى ٧١ جناية في أيام الحرب وبنسبة كبيرة بلغت ٢٦%.
كما تراجعت أرقام جنايات السرقة الكبرى والتي استعدت أجهزة الأمن لمواجهة الزيادة المتوقعة فيها من ١١ جناية في نفس الفترة من العام السابق إلى ٧ جنايات وبنسبة ٤٠%، وسجلت جرائم السرقة الصغيرة انخفاضا يزيد عن ٣٥% في المدة نفسها.
ولم ترصد سجلات الشرطة منذ بدء الحرب أي ظاهرة إجرامية شاذة مما يقع عادة في المدن الكبرى أثناء الحروب، ولم يقع حادث واحد يمكن أن يعد مثيرا للقلق أو مزعجا لحالة الأمن العام، فلا عصابات تهاجم المتاجر والمساكن، ولا أشقياء يتعرضون للمارة في الظلام الدامس ومن ثم كانت حياة المدينة بعد ١٩ يوما من الحرب يغمرها إحساس المواطنين بسيادة الأمن.
انتصرنا وكان للإعلام الحرية والصحافة الحرية، وكانت الإتحادات الطلابية تنتقد الرئيس، انتصرنا وكانت أجواء الديموقراطية التي سار عليها السادات في بدايته أمرٌ محمود لدى الجميع، وثورة تصحيح المسار السياسي كانت في محلها، حيث تتبع أثر طواغيت السياسة من مراكز القوى، كذلك فتح الساحة السياسية بشكل لافتٍ للنظر، عكس ما كانت عليه الحياة السياسة وقت عبد الناصر، حيث القبضة الحديدية "الأمنية" التي لاحقت السياسين وأصحاب الرأي، وحتى من ليس له بالسياسة.
انتصرنا وكان الطلاب يخرجون للمظاهرات للمطالبة بالحرب، وكانت الندوات تُعقَد ويتم السخرية من السادات رئيس الدولة آنذاك، انتصرنا في حرب محتدمة وشديدة وصعبة ونحنُ نحفل بالديموقراطية؛ وعليه فإن من يدَّعي الآن من الأبواق الإعلامية- التطبيلية- أنَّ الديموقراطية ضد الإستقرار فهو شخص فاسد الرأي والمنطق، يهوى الاستعباد والإنغلاق، الجيش والشرطة هما حماة البلد، فالأول للحدود وللأوقات شديدة الحرج، والثانية للأمن الداخلي وإقرار النظام العام، والإثنين معًا كانا ولا يزالا في مواجهة الإرهاب الأسود، لكنها الحياة وسنتها، وسنة الدولة في السعي إلى الديموقراطية والإنفتاح السياسي، فإن الرأي الأحادي لم يصنع أبدًا إنتصارًا حقيقيًا، وها هو هتلر لم ينتصر حق الإنتصار، فقد هُزمَ هزيمةً فادحة وقاسية في النهاية، وهاك عبد الناصر في سياسة «المستبد العادل» التي قد فرضها سياسيًا لم تكن ذات جدوى لكي ننتصر نصرًا حقيقيًا، لذلك فليفهم الجميع إنَّ النصر يأتي من هزيمة الخوف، وإن المطالبة بإغلاق الحياة السياسية في الوقت الحالي هو بمثابة المطالبة بهزيمة، تمحو الإنتصارات التي حققتها الدولة في الآونة الأخيرة.
رحم الله شهداء حرب أكتوبر المجيدة، رحم الله الرئيس السادات، وعاشت مصر أبية باسلة منتصرة ، على كل أعداءها سواء كانوا إرهابيو العصر، أم إرهابيو الصهاينة.