فى مثل هذه الأيام، وتحديدا فى 15 يناير 1918، ولد الزعيم الراحل والرمز المؤثر جمال عبدالناصر، ولد وشرع فى حياة أحدثت فارقا عظيما فى تاريخ أمته والعالم. حياة كانت ثرية وروافدها متعددة.
ومن هذه الروافد، كان حبه العظيم للكتابة، وأسلوبه الخاص، الذى يعكس ذات الشغف ونفس القضايا التى أرقت ووجهت ناصر الزعيم. فالرئيس الأسبق الذى وضع نصا قصصيا بعنوان «فى سبيل الحرية» ومؤلفه «فلسفة الثورة» عكسا كلاهما انشغال الرجل بقضايا وطنه وبالمعانى المؤسسة لمشروعه التحررى والاستقلالى فى النصف الأول من القرن العشرين. وهى ذات المعانى الواردة بقوة فى مقال نادر نشره له الأهرام تحت عنوان «رسالة مصر» فى مطلع الخمسينيات.
من الروافد أيضا، يقينه أنه «مثل» ينظر له الجميع، فكان يحرص دوما أن يكون «الأول» وذلك للتشجيع والدعم لأنظمة ومشروعات أطلقتها مصر فى زمنه. كان أيضا هذا المزيج بين رجل الدولة ورجل العائلة وظهر ذلك فى عشرات المواقف والأحداث، كما جرى يوم التقى الزعيم برائد الفضاء الروسى.. وذلك كله وفقا للأهرام.
بقلم الرئيس .. رسالة مصر: نور وسلام
منذ فجر التاريخ، ومصر تشع على العالم أقباسا من العلم والمعرفة وتحمل فى يديها القويتين مشعل النور والحضارة. فمن مصر انبثق شعاع التوحيد، توحيد الإله الأعظم، فلم تشرك به أحدا، وبذلك زعزعت رواسى الوثنية، وهزت دعائم عبادة الأصنام، وحررت البشرية من عبودية الحجر، وانطلقت بالروح إلى أسمى درجاتها، وجعلتها فى أروع صورها، وصار اسم ( اخناتون) علما على التوحيد والتحرير فى عصر ساده الظلام وخيمت عليه الأوهام. وفى مصر ظهرت اليد التى خففت من آلام الإنسانية وأسقامها، حيث تقدم الطب وسما فى الجراحة، وأقدم الأطباء المصريون على إجراء عمليات ناجحة كانت الخطوة الأولى فى بناء دعائم الطب الحديث، وكانت مصر الأمة العبقرية التى تقدم على يديها فن البناء والهندسة، وهندسة الأهرام وروعة بنائها آية الآيات على هذه العبقرية الفذة. وهى مصر التى جابت أساطيلها البحار حاملة المعرفة والقوة والفن إلى جيرانها فى الشمال والجنوب والشرق والغرب. وهى مصر التى ترعرعت فى جوها الفنون على اختلاف ألوانها، وترعرع فيها الأدب، شعرا رفيعا رائعا، ونثرا قصصيا جميلا، وترعرع فيها فن النحت وازدهر فن النقش والزخرفة حتى جاوز الإبداع والروعة. وإذا هو اليوم المثل الذى يحتذى والنموذج الذى يحاكى. فهذه معابدهم وقبورهم لا تزال حتى اليوم غاية فى الكمال والإبداع حتى أنه ليخيل للرائى أن الفنان قد غادرها بالأمس القريب، وإن امتدت فى أعماق الزمن إلى ستة آلاف عام. وهى مصر التى احتضنت المسيحية منذ أن بزغت، وحفظت لها روحها وطابعها، ولولاها للقيت المسيحية مصيرا غير هذا المصير. بل هى مصر التى اعتنقت الإسلام، وزادت عنه، وحافظت عليه، واحتضنت تراثه، وظهر فيها عباقرة، كان لهم شأن فى الفقه الإسلامى، والعلوم والفنون الإسلامية. وهى مصر التى زادت شيئا ذا بال فى الحضارة الإسلامية. وأضافت إليها إضافات تذكر لها بالفخر، حتى فى عهودها القاسية التى امتحنت فيها، وتعرضت لأذى عظيم، مما جعل العالم الإسلامى يقر لها بهذا الفضل ويعتبرها زعيمة الأمة الإسلامية. هذه هى مصر فى أطوارها المختلفة، مصر الإفريقية، مصر التى تقع فى حوض البحر الأبيض المتوسط الذى قامت فى ظلاله حضارات وحضارات: الحضارة اليونانية، والحضارة الرومانية، والحضارة الإسلامية، ومن قبل الحضارة الفرعونية. مصر التى فرضت شخصيتها منذ أن كان التاريخ مبهما غامضا، فإذا تطلع إليها العالم الآن، فإنما يقدمها إليه تاريخها الحافل بالأمجاد، الضارب فى أعماق الزمن. ومصر التى كانت لها شخصيتها المستقلة، وطابعها الفذ، وكيانها المتحرر من كل عصورها التاريخية، هى مصر اليوم، وهى مصر غدا، والتى ينبثق منها استقلال فى الخطة، وتفرد فى السياسة، وتميز فى الطباع، وهى الأمة العظيمة التى لم يجرفها تيار الاستعمار فى أوج تدفقه، وذروة قوته، فظل لها طابعها، وظلت لها مشخصاتها، وظل لها كيانها. ولا اعنى بذلك أنها عاشت فى عزلة، ولم تتأثر بالحضارات المختلفة، ولكن اعنى أن صلاتها كانت دائما صلات ود وحب، وأنها دائما كانت إلى جانب السلام تنشده، وتتفيأ ظلاله. إن التاريخ لم يعرف عن مصر أنها كانت أمة طامعة أو مستعمرة، وانما عرف عنها ثورتها إذا اعتدى على حدودها، وانتقص من كيانها، فسياسة مصر اليوم إنما هى سياستها بالأمس، وما تقرير سياسة اليوم إلا تأكيد لسياسة الأمس. سياسة الود والسلام، لا سياسة القوة والانتقام. أنها السياسة التى ينشدها الرأى العام العالمى، وهى السياسة التى سينتهجها العالم إن عاجلا أو آجلا، لأنها سياسة الأمن والاستقرار، لا سياسة الغاب والاضطراب.
نشر بتاريخ الرابع من أغسطس 1955
الزعيم يقابل الرائد
فى مطلع الستينيات، وتحديدا فى منتصف أبريل عام 1961، نجح رائد الفضاء الروسى يورى جاجارين ( 1934- 1968) فى أن يصبح أول إنسان ينتقل إلى الفضاء الخارجى ويدور حول الأرض. الإنجاز غير المسبوق جعل جاجارين ملء السمع والأبصار شرقا وغربا.حتى استقبله الزعيم جمال عبدالناصر، وتناول معه العشاء وذلك فى أثناء زيارة الرائد الروسى إلى القاهرة عام 1962.
وخلال هذه الزيارة، قابل جاجارين كثيرين وزار العديد من المعالم «برج القاهرة»، و«الأهرامات»، و«المتحف المصرى»، وحضر «حفل شاى» أقيم خصيصا من أجله فى «الجمعية المصرية الفلكية». وممن التقاهم، كان كمال الدين حسين، نائب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الأعلى لرعاية الشباب حينها، وأهداه خلال احتفال أعياد الشباب والذى أقيم وقتها فى «استاد القاهرة»، «درع اتحاد الشباب القومى». كما التقى جاجارين بالحفناوى عبدالنبى متسلق الأهرامات وشهد عرضه بتسلق «الأهرامات» فى خمس دقائق، لينزل فى دقيقتين، فينال إعجاب رائد الفضاء الروسى فيمنح المتسلق المصرى صورته الشخصية وميدالية تذكارية.
لكن «درة عقد» زيارة جاجارين، كان العشاء الذى دعى إليه على مائدة عبدالناصر وأسرته بمنزل الزعيم فى «منشية البكرى. فخلال هذا العشاء، كان عبدالناصر زعيما وأبا فى آن واحد. يقدم ضيفه البارز إلى أبنائه المنبهرين برائد الفضاء الروسى وانجازه العلمى الكبير. ويقف ليتابع كيف يصافح جاجارين الصغار مرحبا ومشجعا، وكيف يمنح أصغر الأبناء عبدالحكيم، «شارة الفضاء».. فكان لقاء الرائد بالزعيم وعائلته.
الأول دائما..
فكرة «الأول». أن يكون «الأول» ليس مجرد رغبة فى الاستباق، ولكنه كان الأول ليلفت النظر، ليسلط الضوء، ويضرب المثل. هكذا كان الزعيم الراحل، فتبرز تغطيات «الأهرام»، أخبار كونه الأول فى نيل باكورة إنتاج المصانع الوطنية. وكانت هذه رسالة لها هدف وذات ضرورة.
فمثلا، وبتاريخ الخامس من أكتوبر عام 1955، خرجت «الأهرام» بخبر عنوانه «الرئيس يلبس أول (بدلة) من إنتاج مصانع معونة الشتاء بمديرية التحرير». وأدنى العنوان، جاءت التفاصيل التى تكشف تلقى الرئيس ناصر طلبا خاصا بشأن هذه البدلة. وكانت التفاصيل كالتالى: «تلقى السيد الرئيس من مستر وليم مارش المواطن الأمريكى رسالة تقول إنه قرأ فى إحدى الصحف الأمريكية أنباء عن مصانع معونة الشتاء وأنها ستنتج (بدلات) قطنية ثمن الواحدة منها 9 دولارات وأخرى صوفية ثمن الواحدة منها 9 دولارات. وأخر هذه الأنباء أن السيد الرئيس عبدالناصر، سيرتدى أول بدلة تنتجها هذه المصانع الأولى من نوعها فى الشرق الأوسط».
ويشرح الخبر «الأهرامى» كيف أن السيد مارش قد أرفق مع الرسالة والطلب بيانا بمقاييس جسمه، مع « صك» بمبلغ تسعة دولارات، سعيا وراء شراء البدلة المنتظرة، والتى تمنى لو تكون « قطنية مخططة»، وإن أكد انه سيرحب بأى لون متوفر إذا ما لم يتوفر طلبه المنشود. وبالطبع لم ينس الراسل إرفاق البيانات الخاصة بعنوانه.
أما عن رد الرئيس، فأورده «الأهرام» كالتالى: «وقد أجاب السيد الرئيس على هذه الرسالة بأن مصانع المعونة ستبدأ إنتاجها فى شهر يناير المقبل، وسترسل إليه البدلة التى طلبها بعد بدء الإنتاج مباشرة».
قبل هذا الخبر بعدة أشهر، وتحديدا فى يناير من العام ذاته 1955، ورد خبر بعنوان «الرئيس يشترى أول جهاز للراديو من صنع مصر». ومما ورد فيه: « استقبل الرئيس جمال عبدالناصر فى مكتبه ظهر أمس الصاغ صلاح الدين هدايت، مدير مشروع وادى النطرون. وعرض الصاغ هدايت على الرئيس أول إنتاج لمصانع وادى النطرون من أجهزة الراديو، وقد أبدى الرئيس إعجابه بإنتاج هذا المصنع.. وقد قرر الرئيس شراء هذا الجهاز لوضعه فى مكتبه بدار الرياسة تقديرا منه لإنتاج المصنع، ولكى يشاهده كل أجنبى يستقبله الرئيس بمكتبه». كانت هذه مجرد بعض الأمثلة والتى وردت فى العام 1955.
وبعد ذلك توالت الأمثلة والمواقف التى كان فيها ناصر «الأول» والمبادر لضرب المثل. فبين عامى 1956 و1962، وردت أخبار كيف بات الرئيس الأسبق صاحب أول بطاقة شخصية وأول بطاقة عائلية. ففى السادس من مايو عام 1956، خرجت الأهرام بالعنوان التالى: «الرئيس يتسلم بطاقة تحقيق الشخصية». وتوضح السطور ادنى العنوان، أن الرئيس الراحل تلقى فى مكتبه بـ «دار الرياسة»، وزير الداخلية حينذاك، زكريا محيى الدين، ومعه عدد من مسئولى «مصلحة تحقيق الشخصية»، لتسليمه بطاقته الشخصية، التى كانت باكورة البطاقات التى بدأ توزيعها فى حينها على موظفى الدولة، تنفيذا لـ « قانون البطاقات الشخصية الجديد».
وكان عبدالناصر الأول أيضا وفقا للعنوان اللافت الذى نشرته «الأهرام» فى عددها الصادر بتاريخ 25 يناير 1962، وهو: «البطاقة العائلية رقم1»، والذى جاء مصحوبا بصورة للبطاقة تتصدرها صورة الرئيس مبتسما. وأوضح الخبر أن الرئيس تسلم بطاقته العائلية رقم ( 1) بعد أن قيد اسمه وأفراد اسرته فى السجل المدنى بمصر الجديدة.