قررت رئاسة إقليم كردستان العراق إجراء الانتخابات التشريعية يوم 20 أكتوبر 2024، وهى الانتخابات السادسة فى تاريخه والمؤجلة منذ عام 2022، على إثر خلافات سياسية منذ آخر انتخابات تشريعية أُجريت فى عام 2018، لاسيما بعد إعلان المحكمة الاتحادية العليا فى مايو 2023، بطلان قانون "تمديد برلمان كردستان" الذى أُقر فى أكتوبر 2022.
ويأتى إجراء العملية الانتخابية فى إقليم كردستان العراق وسط ظرف إقليمى صعب يواجه العراق ككل على خلفية عملية طوفان الأقصى التى قامت بها المقاومة الفلسطينية فى أكتوبر 2023، والتى يتأثر بمسارها العراق فى سياق إسناد الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران للمقاومة الفلسطينية ضمن "محور المقاومة الإقليمى"، وهو الدور الذى بات يشهد - وبعد عام على عملية طوفان الاقصى وما تبعها من أزمة العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة- نمطا من التصعيد العسكرى الكبير على وقع ضربات متبادلة بين إيران وإسرائيل فى سياق الأزمة نفسها، وبات له انعكاساته الأمنية على العراق من ناحية، وعلى إقليم كردستان العراق من ناحية ثانية، وذلك بالنظر إلى الارتباطات الخارجية لحزبيه التقليديين؛ حيث يرتبط الحزب الديمقراطى الكردستانى بعلاقات تعاون وثيقة مع الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، بينما يرتبط حزب الاتحاد الوطنى بعلاقات تعاون نوعية مع إيران.
كان الحزب الديمقراطى الكردستانى الحاكم قد أعلن مقاطعته للانتخابات ردا على قرار المحكمة الاتحادية العليا الصادر فى فبراير 2024، والذى بمقتضاه تم إلغاء 11 مقعدا كانت مخصصة للأقليات من التركمان والآشوريين والأرمن، وبالتالى تخفيض عدد مقاعد البرلمان الإقليمى إلى 100 مقعد، فضلا عن تعديله للنظام الانتخابى نفسه؛ فألغى العمل بنظام الدائرة الانتخابية الواحدة واستبدله بنظام الدوائر الانتخابية؛ حيث يُقسم الإقليم إلى 4 دوائر انتخابية.
لكن ومع إصرار الحزب الديمقراطى على رفضه دخول الانتخابات التشريعية وفقا لهذه التعديلات، اتجهت المحكمة العليا إلى تعديل قرارها بقرار جديد أصدرته فى أواخر مايو 2024؛ يقضى بإعادة خمسة من المقاعد المخصصة للأقليات مرة أخرى، ما فُسر على أنه نوع من احتواء التوتر بين الحكومة المركزية فى بغداد وبين حكومة الإقليم. وانعكس هذا الاحتواء فى موافقة الحزب الديمقراطى على تنظيم الانتخابات لاختيار برلمان جديد سيتولى بدوره اختيار رئيس جديد للإقليم خلفا لنيجرفان بارزانى، وستخضع عملية الاقتراع فى الانتخابات الجديدة وللمرة الأولى لإشراف "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات".
يترشح فى العملية الانتخابية فى كردستان العراق حوالى 1194 مرشحا يتنافسون على 100 مقعد، مع وجود "كوتة" محددة بخمسة مقاعد للأقليات، ويقسم الإقليم إلى 4 دوائر انتخابية تمثل المحافظات التى يتكون منها الإقليم: أربيل (34 مقعدا)، والسليمانية (38 مقعدا)، ودهوك ( 25 مقعدا) ، وحلبجة (3 مقاعد). إلى جانب مرشحين مستقلين يبلغ عددهم حوالى (84) مرشحا. وتتميز هذه الانتخابات بوجود عدد كبير من المرشحين المستقلين، الذين ترتفع حظوظ حصولهم على نتائج يعتد بها بما يضمن لهم تمثيلا وازنا فى البرلمان الجديد للإقليم؛ حيث بإمكانهم توظيف حالة الاستياء الشعبى من تردى الأوضاع فى ظل الإخفاقات التى منيت بها الأحزاب الكبيرة فى مسار إدارة الإقليم، لاسيما الحزب الديمقراطى الذى يتولى منصبى رئاسة الاقليم ورئاسة الحكومة. لكن فى الوقت نفسه هذه الحظوظ تظل رهنا بسياسات مقابلة تمارسها الأحزاب التقليدية وفى مقدمتها دعمها الضمنى لعدد من المرشحين المستقلين الذين سينضمون بعد الفوز إلى الكتلة الحزبية التى دعمتهم.
فى المقابل، تشهد الأحزاب التقليدية العديد من الانقسامات الداخلية، وكان من أبرزها على الإطلاق هى حالة الصراع على السلطة داخل عائلة بارزاني التى قبلت فكرة توزيع أو تقاسم سلطة إدارة الإقليم داخلها، حيث أصبحت "منظومة" تقاسم السلطة المتعارف عليها بين أفراد العائلة على المحك، نتيجة التنافس الحاد بين كل من نيجرفان بارزانى الرئيس الحالى للإقليم - منصبه رمزى يفتقر الى السلطة التنفيذية نتيجة لتعديلات أجريت على دستور الإقليم فى عام 2018- وبين ابن عمه مسرور بارزانى رئيس الحكومة، الذى يتمتع بنفوذ كبير سواء داخل العائلة أو داخل أروقة سلطة الإقليم. ولكن يحسب لنيجرفان بارزاني كونه السياسى الذى يتمتع بحنكة دبلوماسية مكنته من لعب أدوار مهمة فى تقريب وجهات النظر المتعارضة بين سلطة الإقليم الذى يرأسه، وبين السلطة المركزية فى بغداد.
الانقسامات نفسها يعانى منها حزب الاتحاد الوطنى الكردستانى فى مناطق نفوذه بمحافظة السليمانية؛ حيث قاد زعيم الحزب بافل طلبانى سياسات أمنية متعمدة ضد ابن عمه لاهور جنكى، الذى انفصل عن الحزب الكبير عام 2021، مكونا حزب "جبهة الشعب" فى يناير 2024، الذى يشارك فى الانتخابات المقبلة بقائمة مستقلة عبر الدوائر الانتخابية الأربعة. هذه الانشقاقات قد تؤدى إلى تفتيت أصوات القاعدة الانتخابية للحزب بما قد يؤثر على نتائجه فى معقله بالسليمانية نفسها، وهو ما قد يؤدى إلى تغيير حاد فى الخريطة السياسية فيها، لاسيما وأن لاهور جنكي يتمتع بشعبية كبيرة لدى القواعد الحزبية للحزب، وخوضه الانتخابات الجديدة يعنى أنه يسعى عمليا إلى استعادة نفوذه السياسى بعد تحييده عن الحزب من قبل زعيمه بافل طالبانى.
هذه المعطيات قد تشهد تغييرات مهمة إذا ما جاءت الانتخابات القادمة بنتائج تهدد حالة "التوازن الهش" فى منظومة تقاسم سلطة الإقليم بين عائلة بارزانى نفسها؛ وهو ما قد يهدد السيطرة على منصبى رئاسة الإقليم ورئاسة الحكومة التى تحظى بهما العائلة، بما يعيد سردية التنافس بين الحزب الديمقراطى وحزب الاتحاد الكردستانى إلى واجهة التطورات الداخلية فى الإقليم مجددا. وجدير بالذكر أن هذا التنافس تم احتواءه بين الحزبين الكبيرين عندما توافقا على ترك منصب رئاسة الجمهورية العراقية لحزب الاتحاد الوطنى الكردستانى، بينما يترك الأخير منصبى رئاسة الإقليم ورئاسة حكومته للحزب الديمقراطى أى لعائلة بارزاني. لكن وفى ظل احتداد التنافس بين الحزبين مؤخرا بدا أن حزب الاتحاد الوطنى، الذى قادته تاريخيا وسياسيا عائلة طالبانى، لم يعد راغبا فى حصر نفوذه فى الإقليم على رئاسة البرلمان فقط، بل يدفع مرشحيه للفوز فى الانتخابات المقبلة بما قد يعيد فكرة تقاسم النفوذ على المناصب الثلاثة فى الإقليم بينه وبين الحزب الديمقراطى إلى الواجهة من جديد.
تشير الخارطة الحزبية لانتخابات أكتوبر 2024، فى إقليم كردستان إلى وجود عدة تغيرات تعترى الخريطة الحزبية التقليدية التى كانت مقتصرة على أحزاب محددة منها على سبيل المثال الحزب الديمقراطى الكردستانى، وحزب الاتحاد الوطنى، وحركة التغيير. بل تبدو الخارطة الحالية متضمنة عددا من الأحزاب الجديدة التى جاء بعضها من انشقاقات اعترت الحزبين الديمقراطى والاتحاد الوطنى نتيجة لصراع النفوذ فيهما من ناحية، ولفشلهما فى الاستجابة لمتطلبات جماهيرية كردية من شأنها معالجة مشاكل اقتصادية وأمنية حادة من ناحية ثانية.
وتشير بعض المصادر إلى أن بإمكان الأحزاب الجديدة تغيير معادلة التنافس بينها وبين الأحزاب التقليدية بما قد يحرز اختراقا فى مشهد السيطرة الدائمة للأحزاب التقليدية على العملية البرلمانية فى الإقليم. ومن بين تلك الأحزاب مجموعة الأحزاب المدنية مثل "جبهة حزب الموقف" ، و"حركة الجيل" ويحظيان بنشاط إعلامى كبير داعم لهما فى محافظتى أربيل والسليمانية. هذا بالإضافة إلى وجود عدد لا بأس به من المرشحين المستقلين من السياسيين والإعلاميين وأبناء العائلات والعشائر والمشاهير من صناع المحتوى على شبكات التواصل الاجتماعى، مما يفتح الباب أمام خريطة حزبية مليئة بالقوائم والمرشحين على العكس من الخريطة الحزبية التى خاضت انتخابات الإقليم عام 2018.
كما توجد مجموعة الأحزاب ذات المرجعية الدينية كحزب "الاتحاد الإسلامى الكردستانى"، و"جماعة العدل الكردستانية"، و"الحركة الإسلامية"، وجدير بالذكر أن هذه الأحزاب استطاعت الحصول على مقاعد فى البرلمان الاتحادى فى انتخابات عام 2021، ومن المتوقع أن تحصل على بعض المقاعد فى برلمان الإقليم كونها تحظى بوجود فاعل فى محافظتى دهوك وحلبجة، المعروفتين بتوجهات سكانها الدينية.
ينظم إقليم كردستان العراق انتخابات برلمانية جديدة وسط عدة تحديات داخلية تواجه سلطة الإقليم تتعلق بعدد من المشاكل الاقتصادية والأمنية منها: حالة التدهور الاقتصادى الشديدة التى انعكست سلبا على الحياة المعيشية لمواطنى الإقليم، وارتفاع معدلات البطالة بصورة كبيرة، والتأخير فى دفع الرواتب لموظفى الجهاز الإدارى، والنقص الكبير فى مستوى الخدمات المقدمة للجماهير، هذا بخلاف الإشكاليات المتعلقة بعائدات النفط بين حكومة الإقليم وبين الحكومة الاتحادية فى بغداد، لاسيما وأن الإقليم حُرم ولأكثر من عام من المكاسب المالية الخاصة بهذه العوائد على إثر قرار تحكيم دولى جاء لصالح الحكومة الاتحادية.
فى المقابل، ثمة تحديات خارجية تتعلق بتطورات الظرف الإقليمى الخاص بتداعيات عملية طوفان الأقصى، في أكتوبر 2023، والتى يرتبط العراق بتأثيراتها بالنظر إلى إسناد المليشيات العراقية الشيعية الموالية لإيران للمقاومة الفلسطينية إقليميا، لاسيما وأن الإقليم عانى من ضربات عسكرية إيرانية قبل اندلاع عملية طوفان الأقصى وبعدها نتيجة ما تدعيه إيران من تعاون متطور بين حكومة الإقليم وبين إسرائيل. ويتمتع إقليم كردستان العراق بعلاقات تحالف قوية مع كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتركيا وإسرائيل، وهى منظومة علاقات لا ترضى عنها إيران التى تعد الراعى الإقليمى الأول للحكومة الاتحادية فى بغداد. وبالتالى تظل علاقة حكومة الإقليم بتلك القوى محل استهداف ودراسة مستمرة وتقييم دائم من قبل إيران، خاصة ما يتعلق منها بالنشاط الاستخباراتى بين أربيل وتل أبيب، وهو ما تعتبره إيران أحد مهددات أمن المليشيات الموالية لها فى العراق.
هذا إلى جانب التحديات الأمنية التى يفرضها التدخل العسكرى التركى فى شمال الإقليم بذريعة حماية الحدود التركية من هجمات حزب العمال الكردستانى التركى المعارض، والذى يتحصن بجبال قنديل شمال العراق، ما يخلق بيئة أمنية متوترة لها وطأتها على حالة الاستقرار الأمنى بالإقليم وعلى سلامة مواطنيه وممتلكاتهم.
هذه المعطيات الخاصة بالتحديات الإقليمية التى تواكب انتخابات برلمان إقليم كردستان العراق ستكون لها تأثيراتها على نتائج تلك الانتخابات فى ظل معادلة الارتباطات الإقليمية للحزبين الكبيرين الديمقراطى الكردستانى والاتحاد الوطنى الكردستانى؛ فالأول يرتبط بعلاقات خارجية قوية مع كل من الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، بينما يرتبط الثانى بعلاقات قوية مع إيران. ويلاحظ أن الحزب الديمقراطى بات عليه أن يعالج الانعكاسات السلبية المترتبة على علاقاته مع الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل فى مواجهة خصمة التقليدى حزب الاتحاد الوطنى الذى يدفع إلى تبنى رؤية جديدة لإدارة الإقليم تقوم على "المساومة السياسية"؛ ومؤداها دفع خصمه الحزب الديمقراطى إلى التخلى عن أحد منصبى إدارة الاقليم، وهما منصب رئاسة الإقليم ومنصب رئاسة الحكومة، مقابل "تسهيل" حزب الاتحاد الوطنى مهمة "تشكيل حكومة جديدة للإقليم" فى أعقاب اعتماد نتيجة الانتخابات البرلمانية بدلا من تعطيلها، وهو بالمناسبة أحد السيناريوهات المتوقعة فى مرحلة ما بعد الانتخابات.
ختاما، يمكن القول إن انتخابات برلمان إقليم كردستان العراق، أكتوبر 2024، تبدو مختلفة عن انتخابات علم 2018، من حيث سياقها الداخلى والإقليمى بالكيفية السابق رصدها، وإن هذا الاختلاف قد يحمل بعض التغيرات على خارطة التنافس الحزبى فيها من ناحية، واحتمالية حدوث اختلاف فى النتائج عما هو معتاد من ناحية ثانية، حيث من المتوقع أن تحصل الأحزاب الجديدة على بعض التمثيل البرلمانى الذى قد يحدث نوعا من "التوازن" فى البرلمان، لكن فى الوقت نفسه لا يعنى هذا حدوث خرق كبير فى هيمنة وسيطرة الأحزاب التقليدية لاسيما الحزب الديمقراطى وحزب الاتحاد الوطنى على غالبية مقاعد البرلمان وعلى مسار تشكيل الحكومة. وغالبا ما سيحافظ الحزب الديمقراطى على تمثيله فى البرلمان الجديد، لكن سيكون مضطرا إلى عقد "مقايضة نوعية جديدة"، كما سبقت الإشارة إليها، مفادها التخلى عن أحد منصبى إدارة الإقليم (الرئاسة ورئاسة الحكومة) مقابل عدم تعطيل خصمه حزب الاتحاد الوطنى مسار تشكيل الحكومة الجديدة، وهو أمر يحتاجه الحزب الديمقراطى بشدة حتى يستطيع إدارة توازنات إقليم كردستان سواء داخل الإقليم أو مع الحكومة الاتحادية فى بغداد خلال المرحلة المقبلة، وفى ظل التوترات الإقليمية الحادة التى تحيط بالعراق. نقلا عن موقع الأهرام